بعد عام من أول إنتخابات شرعية في تونس أضحت البلاد منذ تولي الحكومة الحالية - المنتخبة ديمقراطياً - ساحةً للعديد من الصراعات بين أديولوجيات مختلفة متناسيةً بذلك الأهداف الأساسية التي من أجلها أستشهد المئات من الشباب: شغل، حرية، كرامة وطنية ..إنه لمن المحزن مشاهدة الثورة تحيد عن مسارها تاركةً الشعب التونسي وآماله في مهب الريح .عام مضى، وكل ما كسبه الشعب التونسي هو تقلبات مزاجية صباحية مردها حكومة شرعية تنقصها الشفافية في التعامل مع مطامح شباب ثار على الظلم والطغيان، وأمل في حياة كريمة قوامها العدالة في توزيع ثروات البلاد والعدالة في محاكمة الطغيان والعدالة في توفير مقومات العيش الكريم. ولكن ما راعه إلا أن الألوان والوجوه تغيرت ولكن القمع و الفساد و التعديات لم تتغير لا بل الأدهى و الأمر هو أن التعديات اليوم متخفية تحت رايات تعتمد النصوص الإلهية مصدراً لتعاملاتها اليومية وربما في المستقبل أحكامها السياسية. ولكن بينها وبين القداسة مسافات طويلة. و لنراجع ماحققته حكومة اليوم من تطلعات الشعب التونسي:
في مجال الشغل؟ يبدو أن الحكومة لم تفهم بعد أن الوعود المتلفزة الكاذبة لم تعد تنطلي على الشعب التونسي. تشير الأرقام إلى أن عدد العاطلين عن العمل، خاصةً أصحاب الشهادات العليا في تزايد مستمر وقد وصلت النسبة إلى 250 ألف عاطل عن العمل حالياً. قد يرجع البعض الأمر إلى إستحالة خلق فرص شغل في غضون سنة واحدة من عمل الحكومة ،وقد يصدق البعض هاته الحجة لو أن الحكومة قد أبدت إستعداداَ ونيةً لحل مشكل البطالة بطريقة فعالة ولكن عندما يتواصل مسلسل عدم الشفافية في التعامل مع مثل هذه القضايا الحساسة ويتواصل إستعمال وسائل بن علي في إيهام الرأي العام بأن الحكومة تعمل جاهدة لتحقيق ذلك فإن ذلك يتنافى والمطالب الأساسية للثورة الداعية للمحاسبة والشفافية في التعامل ويسبب إحتقان في صفوف الشباب الذي علق آماله على حكومة منتخبة ديمقراطياً لتحقيق آماله.
في مجال الحرية؟ قد يستغرب الرأي العام المحلي والأجنبي ما تشهده تونس من تجاوزات على الحريات الفردية والجماعية علماً بأن أولئك الذين وضع فيهم أغلبية الشعب ثقته وصوت لهم عاماً قبل اليوم كانوا من المضطهدين أيام بن علي ولكن ما إن تولوا الحكم حتى تنكروا على ما يبدو لشعارات الحرية التي طالما دافعوا عنها في السابق. ففي عدة مناسبات سمحت الحكومة لنفسها بأن تضع حرية التعبير على المحك. فمحاولات حزب النهضة ذو الأغلبية السيطرة على قطاع الإعلام تجسدت في ثلة من التعيينات التي أقرتها الحكومة لرؤساء مؤسسة التلفزة الوطنية والإذاعات المحلية لأفراد موالية للحزب الحاكم. وقد أثارت هذه التعيينات موجة من الغضب في صفوف نقابيي الصحافة وخلفت عديد الإحتجاجات أمام مقرات الصحف اليومية والتلفزة الوطنية توجت في النهاية بإعتصام كل مؤسسات التلفزة إحتجاجاً على التدخل المتكرر للحكومة في الإعلام وتعبيرها المتواصل عن إنتقاد الإعلام لعملها .
هذا في مجال الإعلام ، أما في ما يخص الحرية الفردية فإن قضية المدون سفيان الشورابي الذي أعتقل في رمضان الفارط عندما كان نائماً في خيمته على أحد الشواطئ النائية بتهمة إحداث الفوضى! ولكن الدافع الأساسي هو على ما يبدو إحتسائه الخمر خلال رمضان! وبما أنه ليس هنالك قانون يجرم مثل هذه الممارسات، تم تلفيق تهمة أخرى لتغطي الدوافع الإيديولجية لإعتقاله.
حرية التونسيين كانت مسلوبة قبل الثورة من خلال جهاز أمن ووزارة داخلية محصنة ضد أي محاسبة أو قانون، بعد الثورة وبعد إنتخابات ديمقراطية شرعية، لم نلمس من الحكومة أي جهود جدية لإصلاح الوزارة من الداخل ومحاسبة كل رموز فسادها. على العكس، رأينا البوليس التونسي يصول ويجول في البلاد ، غير مبال بأزمات الثقة العميقة المتواصلة بينه وبين أفراد شعب من المفروض أنه الساهر الأول على أمنه. وما قضية إغتصاب الفتاة -- التي فضلت أن تتستر على إسمها -- من قبل رجلي أمن إلا تجسيد لما آلت إليه الأمور من بشاعة في هذا البلد. أطوار القضية تعود إلى أوائل سبتمبر، حيث إقتاد رجال الأمن فتاة كانت بصحبة خطيبها من سيارتها إلى سيارة الشرطة حيث تم اغتصابها ثم طلب مبلغ مالي من خطيبها مقابل إطلاق سراحهما. وعند تجرؤ الفتاة على رفع قضية تم استدعائها للمثول كمتهمة بالمجاهرة بالفاحشة التي يعاقب عليها القانون التونسي بستة أشهر سجن والشاهد الوحيد في القضية هم رجال الأمن الذين إغتصبوا الفتاة. نعم ! في بلد ثورة الياسمين ، تتحول الضحية إلى متهمة فرجال الأمن فوق القانون.
لقد فوتت الحكومة فرصةً ذهبية إثر هذه القضية لتثبت للجميع أن مجهوداتها المزعومة لإرساء دولة القانون هي مجهودات حقيقية وأن القضاء جهاز مستقل بذاته لا يخضع لأي ضغوطات مهما كانت، ولكن بمساندتها الإتهامات الموجهة للفتاة ، بينت الحكومة نيتها الجدية في التعامل مع كل تجاوزات الأمن.
في مجال الكرامة ؟ عن أي كرامة نتحدث ورجال الأمن بالمرصاد بهراواتهم وغازهم المسيل للدموع كلما رصدوا إحتجاجاً خاصةً إذا تعلق الأمر بأحد المناطق الداخلية بالبلاد حيث إشتعلت شرارة الثورة للمرة الاولى . كرامة؟ عن أي كرامة نتحدث عندما يعجز سكان تلك المناطق عن إقتناء المواد الغذائية الأساسية لأن الحكومة تضاعف الأسعار بصفة مستمرة غير مبالية بضعف أو بالأحرى عجز القدرة الشرائية لغالبية الشعب بما في ذلك الطبقة الميسورة التي وجدت نفسها اليوم تعاني من إرتفاع الأسعار بصفة تفوق الخيال في وقت قياسي! عن أي كرامة نتحدث عندما يهمش جرحى الثورة ويستقبلون بالإهانة والضرب أمام وزارة حقوق الإنسان والعدالة الإنتقالية عندما طالبوا بتوفير العلاج ومحاسبة من كان سبباً في إصابتهم بشظايا الرصاص أيام الثورة.
قد يستلزم الحديث عن إنجازات حكومة ما بعد الثورة في تونس مساحة أكبر من هذه لما حققته الحكومة من تجاوزات إستغرق بن علي وحكومته وقتاً أطول للتجرؤ على القيام بها ...أهي قلة الخبرة السياسية لأفراد الحكومة الحالية أم هي قوى مضادة تمنع التغيير الجذري والفعال الذي طمح له التونسيون بعد الإنتخابات ؟
مهما كانت الأسباب فإن الحكومة خيبت أمال الكثيرين بعدم اتخاذها لأي قرارات جريئة تليق بمقام الثورة التونسية التي أشعلت النار في مختلف بلدان العالم العربي. فلنطمح إلى الأفضل ... في ثورة قادمة إنشاءالله .